وقفات تربوية من وحي الحرب على غزة

 

وقفات تربوية من وحي الحرب على غزة

أ. د. علي جبران

كلية العلوم التربوية \ جامعة اليرموك

 

تقف النظريات التربوية السلوكية والإدراكية والبنائية وغيرها من النظريات عاجزة عن تفسير مواقف الصمود والجلد والتصبر، وقوة الإرادة والعزيمة والتصميم المتين لشعب غزة المحاصر منذ 17 سنة. جيل كامل ولد وعاش في ظل النكبات والنكسات المتتالية، والحروب المتكررة والحصار المطبق، ولكن هذه المحن لم تزده إلا إصرارا على نيل حريته، وتحرير أرضه المغتصبة من كيان محتل بغيض.

وفي ظل الحرب الشرسة على غزة ورجالها ونسائها وأطفالها، برزت مواقف تربوية فريدة، لها مدلولاتها وآثارها النفسية على الجيل المعاصر والقادم والذي من المؤمل أن يكون له دور كبير في نهضة المجتمع والأمة، وإعادة الحقوق لأهلها الأصليين. ولا بد هنا من الوقوف عندها مليا لاستلهامها وتبنيها وتفسيرها ضمن الظواهر التربوية التي تستحق التأمل:

الوقفة الأولى: رفع معنويات الأمة وتعزيز الثقة بالذات

        استطاعت أحداث السابع من أكتوبر في غزة أن تعيد للقضية الفلسطينية ألقها ومكانتها بين قضايا الأمة والعالم. فبعد أن تحولت إلى قضية محلية ضيقة، تمكن أبطال غزة إلى إعادتها لتصبح في صدارة القضايا العربية والإسلامية والعالمية. ولقد أثبتوا للعالم أن الأمة عندما تقرر أن تفعل فإنها تستطيع بالتوكل على الله والإعداد الكامل لمواجهة العدو الصهيوني. فرغم الجراح النازفة والتضحيات الكبيرة التي تبذل في غزة، إلا أن أحداث السابع من أكتوبر يجب أن تبقى في الذاكرة، وينبغي تدريسها للأجيال القادمة، بعد أن تمكن أبطال غزة من إعطاء الجيش الذي لا يقهر درسا في البطولة والبسالة والإقدام. وإن التفاعل الجماهيري غير المسبوق في الأردن والدول العربية والعالمية لدليل واضح أن قضية حرية الشعب الفلسطيني واستعادة أرضه ما زالت حية في ضمائر أبناء الأمة والعالم الحر.

الوقفة الثانية: تضامن اجتماعي فريد

هناك العديد من المشاهد التي تدلل على تماسك المجتمع في غزة وتكاتفه معا، مما يشير إلى حجم التعاضد والتلاحم المجتمعي الكبير بين أفراده وقت المحن. يهرع الجميع للنجدة ومد يد العون لأصحاب البيوت التي قصفت ومحاولة انتشال الشهداء وإنقاذ الجرحى ومواساة المصابين، رغم الخطر المحدق بهم جراء استمرار القصف والدمار في تلك اللحظات العصيبة. وهناك مشاهد متكررة لتقاسم كسرة الخبز الناشفة ولقمة العيش وشربة الماء والمصروف النقدي بين السكان، في مختلف المدارس التي لجؤوا إليها للإيواء والاحتماء من الحرب الدائرة. بل إن هناك قصصا متكررة حول تقاسم فراش النوم بين العائلات لتكفي كل عائلة بضع ساعات يريحوا بها أجسادهم رغم تعب ضمائرهم وقلوبهم المكلومة.

الوقفة الثالثة: أخلاقيات أبناء الشعب وقت المحن والكوارث

من المعروف أن هناك سلوكيات سلبية كثيرة للناس وقت الكوارث والزلازل والفياضانات والحروب، من خلال استغلال انشغال الناس بما هو أهم. ولكن في غزة فقد تجلت كل معاني الأمانة والشفافية من خلال إعادة ما كان يوجد تحت الأنقاض من أموال أو ممتلكات إلى مستحقيها. ولذا لم تذكر حالة من حالات سرقات البيوت الخالية التي تركها أهلها ونزحوا إلى أماكن قد تكون أكثر أمنا، أو تلك البيوت المنكوبة والمدمرة. ولم تذكر أي حالة لسرقات المحلات التجارية رغم الحاجة لكسرة خبز ولقمة عيش. ولم تذكر أي حالة من جرائم القتل الانتقامية استغلالا للفوضى التي قد تكون في زمن الحروب. ولقد شوهدت العديد من الطوابير على المحال التجارية لشراء بعض المستلزمات بكل معاني الانتظام والالتزام بالدور بدون أدنى مستويات الفوضى المعهدودة في مثل هكذا طوابير وهكذا ظروف. شعب تربى على القيم والأخلاق الإسلامية الرصينة لا يمكن أن تكون تصرفاته إلا وفق منهج الله في زمن السراء والضراء على سواء.

الوقفة الرابعة: منظومة قيم جيل النهضة

لا بد لجيل النهضة في أي أمة أن يتمثل منظومة قيمية أصيلة يستطيع أن يحقق أهدافه من خلالها ويحافظ على مكتسباته وفقها. يذكر أنه يتم تخريج آلاف الحفاظ لكتاب الله في كل عام في غزة، وفي العام الماضي تم تخريج 1471 حافظا للقرآن الكريم. فجيل تربى على كتاب الله يسعى دوما للتمسك به والالتزام بمضمونه والعمل وفق أخلاقياته وقيمه. وجيل تربى على صلاة الفجر وقيام الليل فهو أحق أن يعرف الواجب الوطني المنوط به بكل أمانة وإخلاص. قيمة التصبر والمصابرة العجيبة قد تجلت في مواقف الرجال والنساء والأطفال الذين فقدوا العديد من أفراد أسرهم في الحرب الدائرة عليها، ولكن ألسنتهم لا تلهج إلا بأن ذلك كله فدا الأقصى والقدس وفلسطين. مواقف الشرف والكبرياء كانت تدفع الناس هناك إلى استخراج الجرحى من تحت الركام، وهمهم الأساس أن يغطوا رأس البنت العفيفة لألا ينكشف شعرها على غير المحارم. ورأينا العديد من مواقف العزة والكبرياء والأنفة لأهل غزة، عزة تدفع هذا الجيل لرفض الاستسلام والاستجداء والتذلل للأعداء. قيمة التوق للحرية والإباء والانسلاخ عن المستعمر والمحتل كانت حاضرة في عيون الشباب الذي يأبى أن يخضع إلا لعبودية الله وحده. قيمة الهمة العالية والشجاعة والإقدام رغم شراسة العدو وبطشه، وكأن أهل غزة اقتدوا بمقولة الشافعي رحمه الله: "همتي همة ملوك، ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا". وقيمة الطموح عند أهل غزة كانت مستلهمة من مقولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن لي نفسا تواقة، تاقت للإمارة فنالتها، وتاقت للخلافة فنالتها، وأنا الآن أتوق للجنة وأرجو أن أنالها". وفي مقدمة ذلك كانت قيمة الرؤية الواضحة بارزة في سلوكهم نحو تحرير كامل الأرض المحتلة والإنسان. وهناك العديد من المشاهد الفريدة حول قيم الإعداد المتخصص في كل المجالات، والإرادة الراسخة في النفس نحو تحقيق الطموحات، والمبادرة التي لا ينتظر صاحبها أن يسبقه فيها أحد، والجهد المتواصل في العمل والاستعداد، والثقة المطلقة بوعد الله ونصره، وحسن الظن بالله والاعتماد والتوكل عليه وحده.

من هنا فإن مدرسة تربوية جديدة قد تشكلت لبناء جيل قادر على إعادة الحقوق وتحرير المقدسات بكل شموخ وإباء. شباب قادرون على رسم طريق جديدة نحو البناء النهضوي للمجتمع والأمة والإنسانية. لا بد من استلهام الدروس التربوية من هذه المواقف الفذة، لاستكمال منظومة قيمية شاملة بمنهجية عملية، قادرة على بناء الشخصية بناء متكاملا، يجمع بين التربية الإيمانية والروحية الأصيلة، والتربية الفكرية والعقلية الراسخة، كما يؤكد على معاني التربية النفسية والوجدانية المتزنة، إلى جانب التربية الاجتماعية والسلوكية الرصينة، بالإضافة إلى التربية الجسدية التي ينبغي الإعداد لها إعدادا يليق بعظم الهدف النبيل والمنشود. بهذا المنهج وحده يستطيع الجيل أن يقدر ذاته، ويحقق مراده، ويرفع من شأنه، ويعلي من مراتبه، ويرفع رأس الأمة.

Copyright © 2024 YUCC.

Search